فصل: القسم الثاني من ولاية الدروس والخوانق.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.القسم الثاني من ولاية الدروس والخوانق.

وقد رأيت أن أقرر للقراءة في هذا الدرس كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه فإنه من أصول السنن وأمهات الحديث وهو مع ذلك أصل مذهبنا الذي عليه مدار مسائله ومناط أحكامه وإلى آثاره يرجع الكثير من فقهه.
فلنفتتح الكلام بالتعريف بمؤلفه رضي الله عنه ومكانه من الأمانة والديانة ومنزلة كتابه الموطأ من كتب الحديث ثم نذكر الروايات والطرق التي وقعت في هذا الكتاب وكيف اقتصر الناس منها على رواية يحيي بن يحيي ونذكر أساندي فيها ثم نرجع إلى الكلام على متن الكتاب.
أما الإمام مالك رضي الله عنه فهو إمام دار الهجرة وشيخ أهل الحجاز في الحديث والفقه غير منازع والمقلد المتبوع لأهل الأمصار وخصوصا أهل المغرب قال البخاري: مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي كنيته أبو عبد الله حليف عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله القرشي التيمي ابن أخي طلحة بن عبيد الله كان إماما روى عنه يحيى بن سعيد انتهى كلام البخاري.
وجده أبو عامر بن عمرو بن الحرث بن عثمان ويقال: غيمان بغين معجمة مفتوحة وياء تحتانية ساكنة ابن جثيل بجيم مضمومة وثاء مثلثة مفتوحة وياء تحتانية ساكنة ويقال حثيل أو خثيل بحاء مضمومة مهملة أو معجمة عوض الجيم ويقال حسل بحاء مهملة مكسورة وسين مهملة ساكنة ابن عمرو بن الحرث وهو ذو أصبح وذو أصبح بطن بن حمير وهم أخوة يحصب ونسبهم معروف فهو حميري صليبة وقرشي حلفا ولد سنة إحدى وتسعين فيما قال ابن بكير وأربع وتسعين فيما قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ونشأ بالمدينة وتفقه بها أخذ عن ربيعة الرأي وابن شهاب وعن عمه أبي سهيل وعن جماعة ممن عاصرهم من التابعين وتابعي التابعين وجلس للفتيا والحديث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شابا يناهز العشرين وأقام مفتيا بالمدينة ستين سنة وأخذ عنه الجم الغفير من العلماء الأعلام وارتحل إليه من الأمصار من لا يحصى كثرة وأعظم من أخذ عنه الإمام محمد بن إدريس الشافعي وابن وهب والأوزاعي وسفيان الثوري وابن المبارك في أمثال لهم وأنظار وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة باتفاق من الناقلين لوفاته وقال الواقدي: عاش مالك تسعين سنة وقال سحنون عن ابن نافع: توفى مالك ابن سبع وثمانين سنة ولم يختلف أهل زمانه في أمانته وإتقانه وحفظه وتثبته وورعه حتى لقد قال سفيان بن عيينة: كنا نرى في الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تضرب أكباد الإبل في طلب العلم فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة» إنه مالك بن أنس.
وقال الشافعي: إذا جاء الأثر ف مالك النجم وقال: إذا جاءك الحديث عن مالك فشد به يديك وقال أحمد بن حنبل: إذا ذكر الحديث فمالك أمير المؤمنين.
وقد ألف الناس في فضائله كتبا وشأنه مشهور.
وأما الذي بعثه على تصنيف الموطأ فيما نقل أبو عمر بن عبد البر فهو أن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عمل كتابا على مثال الموطأ ذكر فيه ما اجتمع عليه أهل المدينة ولم يذكر فيه شيئا من الحديث فأتي به مالك ووقف عليه وأعجبه وقال: ما أحسن ما عمل هذا! ولو كنت أنا الذي عملت لبدأت بالآثار ثم شددت ذلك بالكلام وقال غيره: حج أبو جعفر المنصور ولقيه مالك بالمدينة فأكرمه وفاوضه وكان فيما فاوضه: يا أبا عبد الله لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك وقد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس كتابا ينتفعون به تجنت فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ووطئه للناس توطئة قال مالك: فلقد علمني التأليف فكانت هذه وأمثالها من البواعث لمالك على تصنيف هذا الكتاب فصنفه وسماه الموطأ أي المسهل قال الجوهري وطؤ يوطؤ وطأة أي صار وطيئا ووطأته توطئة ولا يقال وطيته ولما شغل بتصنيفه أخذ الناس بالمدينة يومئذ في تصنيف موطأت فقال لمالك أصحابه: نراك شغلت نفسك بأمر قد شركك فيه الناس وأتي ببعضها فنظر فيه ثم طرحه من يده وقال: ليعلمن أن هذا لا يرتفع منه إلا ما أريد به وجه الله فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار وما سمع لشيء منها بعد ذلك ذكر وأقبل مالك على تهذيب كتابه وتوطئته فيقال إنه أكمله في أربعين سنة وتلقت الأمة هذا الكتاب بالقبول في مشارق الأرض ومغاربها ومن لدن صنف إلى هلم وطال ثناء العلماء في كل عصر عليه ولم يختلف في ذلك اثنان قال الشافعي وعبد الرحمن بن مهدى: ما في الأرض كتاب بعد كتاب الله أنفع وفي رواية أصح وفي رواية أكثر صوابا من موطأ مالك وقال يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت كتابا ألف في العلم أكثر صوابا من موطأ مالك.
وأما الطرق والروايات التي وقعت في هذا الكتاب فإنه كتبه عن مالك جماعة نسب الموطأ إليهم بتلك الرواية وقيل موطأ فلان لراويه عنه فمنها موطأ الإمام محمد بن إدريس الشافعي ومنها موطأ عبد الله بن وهب ومنها موطأ عبدالله بن مسلمة القعنبي ومنها موطأ مطرف بن عبدالله الساري نسبة إلى سليمان بن يسار ومنها موطأ عبد الرحمن بن القاسم رواه عنه سحنون بن سعيد ومنها موطأ يحيى بن يحيى الأندلسي رحل إلى مالك بن أنس من الأندلس وأخذ عنه الفقه والحديث ورجع بعلم كثير وحديث جم وكان فيما أخذ عنه الموطأ وأدخله الأندلس والمغرب فأكب الناس عليه واقتصروا على روايته دون ما سواها وعولوا على نسقها وترتيبها في شرحهم كتاب الموطأ وتفاسيرهم ويشيرون إلى الروايات الأخرى إذا عرضت في أمكنتها فهجرت الروايات الأخرى وسائر تلك الطرق ودرست تلك الموطآت إلا موطأ يحيى بن يحيى فبروايته أخذ الناس في هذا الكتاب لهذا العهد شرقا وغربا.
وأما سندي في هذا الكتاب المتصل بيحيى بن يحيى فعلى ما أصفه:
حدثني به جماعة من شيوخنا رحمة الله عليهم منهم إمام المالكية قاضي الجماعة بتونس وشيخ الفتيا بها أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن يوسف الهواري سمعته عليه بمنزله بتونس من أوله إلى آخره ومنهم شيخ المسندين بتونس الرحالة أبو عبد الله محمد بن جابر بن سلطان القيسي الوادي آشي سمعت عليه بعضه وأجازني بسائره ومنهم شيخ المحدثين بالأندلس وكبير القضاة بها أبو البركات محمد بن محمد بن محمد - ثلاثة من المحدثين - ابن إبراهيم بن الحاج البلفيقي لقيته بفاس سنة ست وخمسين وسبعمائة من هذه المائة السابعة مقدمه من السفارة بين ملك الأندلس وملك المغرب وحضرت مجلسه بجامع القرويين من فاس فسمعت عليه بعضا من هذا الكتاب وأجازني بسائره ثم لقيته لقاءة أخرى سنة اثنتين وستين وسبعمائة استقدمه ملك المغرب السلطان أبو سالم ابن السلطان أبي الحسن للأخذ عنه وكنت أنا القارىء فيما يأخذه عنه فقرأت عليه صدرا من كتاب الموطأ وأجازني بسائره إجازة أخرى.
ومنهم شيخ أهل المغرب لعصره في العلوم العقليه ومفيد جماعتهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي قرأت عليه بعضه وأجازني بسائره قالوا كلهم: حدثنا الشيخ المعمر أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون الطائي عن القاضي أبي القاسم أحمد بن يزيد بن بقي عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الحق الخزرجي.
وحدثني به أيضا شيخنا أبو البركات عن إمام المالكية ببجاية ناصر الدين أبي علي منصور بن أحمد بن عبد الحق المشدالي عن الإمام شرف الدين محمد بن أبي الفضل المرسي عن أبي الحسن علي بن موسى بن النقرات عن أبي الحسن علي بن أحمد الكناني قال الخزرجي والكناني: حدثنا أبو عبد الله محمد بن فرج مولى ابن الطلاع عن القاضي أبي الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث بن الصفار قاضي الجماعة بقرطبة.
وحدثني به أيضا شيخنا أبو عبد الله بن جابر عن القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن الغماز عن شيخه أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي عن القاضي أبي القاسم عبد الرحمن بن حبيش وأبي عبد الله محمد بن سعيد ين زرقون شارح كتاب الموطأ قال ابن زرقون: حدثنا به أبو عبد الله الخولاني عن أبي عمرو عثمان بن أحمد القيجاطي وقال ابن حبيش: حدثنا به القاضي أبو عبد الله بن أصبغ ويونس بن محمد بن مغيث قالا: قرأناه على أبي عبد الله محمد بن الطلاع وقال ابن حبيش أيضا: حدثنا به أبو القاسم أحمد بن محمد ورد عن القاضي أبي عبد الله محمد بن خلف بن المرابط عن المقرئ أبي عمر أحمد بن محمد بن عبد الله المعافري الطلمنكي قال القاضي أبو الوليد بن مغيث والقيجاطي والطلمنكي: حدثنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن يحيى عن عم أبيه أبي مروان عبيد الله بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى وقال الطلمنكي: حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن حدير البزاري قال حدثنا أبو محمد قاسم بن أصبغ قال: حدثنا أبو عبيد الله محمد بن وضاح قال حدثنا يحيى عن مالك إلا ثلاثة أبواب من آخر كتاب الاعتكاف أولها خروج المعتكف إلى العيج فإن يحيى شك في سماعها عن مالك فسمعها عن زياد بن عبد الرحمن الملقب شبطون عن مالك.
ولي في هذا الكتاب طرق أخرى لم يحضرني الآن اتصال سندي فيها.
فمنها عن شيخنا أبي محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي كاتب السلطان أبي الحسن لقيته بتونس عند استيلاء السلطان عليها وهو في جملته سنة وثمان وأربعين وسبعمائة وحضرت مجلسه وأخذت عنه كثيرا وسمعت عليه بعض الموطأ وأجازني بالإجازة العامة وهو يرويه عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير وعن شيخه الأستاذ أبي إسحاق الغافقي وعن أبي القاسم القبتوري وجماعة من مشيخة أهل سبتة ويتصل سنده فيه بالقاضي عياض وأبي العباس العز في صاحب كتاب الدر المنظم في المولد المعظم ومنها عن شيخنا أبي عبد الله الكوسي خطيب الجامع الأعظم بغرناطة سمعت عليه بعضه وأجازني بسائره وهو يرويه عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير عن القاضي أبي عبد الله بن بكار وجماعة من مشيخة أهل الأندلس ويتصل سنده فيه بالقاضي أبي الوليد الباجي والحافظ أبي عمر بن عبد البر بسندهما.
ومنها عن شيخنا المكتب أبي عبد الله محمد بن سعد بن برال الأنصاري شيخ القراءة بتونس ومعلمي كتاب الله قرأت عليه القرآن العظيم بالقراءات السبع وعرضت عليه قصيدتي الشاطبي في القراءة وفي الرسم وعرضت عليه كتاب التقصي لابن عبد البر وغير ذلك وأجازني بالإجازة العامة وفي هذه بالإجازة الخاصة وهو يروي هذا الكتاب عن القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن الغماز وعن شيخه أبي العباس أحمد بن موسى البطرني بسندهما.
ومنها عن شيخنا الأستاذ أبي عبد الله محمد بن الصفار المراكشي شيخ القراءات بالمغرب سمعت عليه بعض هذا الكتاب بمجلس السلطان أبي عثمان ملك المغرب وهو يسمعه إياه وأجازني بسائره وهو يرويه عن شيخه محدث المغرب أبي عبد الله محمد بن رشيد الفهري السبتي عن مشيخة أهل سبتة وأهل الأندلس حسبما ذلك مذكور في كتب رواياتهم وطرق أسانيدهم إلا أنها لم تحضرني الآن وفيما ذكرناه كفاية والله يوفقنا أجمعين لطاعته وهذا حين أبتدي وبالله أهتدي.
وانفض ذلك المجلس وقد لاحظتني بالتجلة والوقار العيون واستشعرت أهليتي للمناصب القلوب وأخلص النجي في ذلك الخاصة والجمهور وأنا أنتاب مجلس السلطان في أكثر الأحيان لتأدية الواجب من التحية والمشافهة بالدعاء إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النزعات الملوكية فأبعده وأخره عن خظة القضاء في رجب ست وثمانين وسبعمائة ودعاني للولاية في مجلسه وبين أمرائه فتفاديت من ذلك وأبى إلا إمضاءه وخلع علي وبعث الأمراء معي إلى مقعد الحكم بمدرسة القضاء فقمت في ذلك المقام المحمود ووفيت عهد الله وعهده في إقامة رسوم الحق وتحري المعدلة حتى سخطني من لم ترضه أحكام الله ووقع في ذلك ما تقدم ذكره وكثر شغب أهل الباطل والمراء فأعفاني السلطان منها لحول من يوم الولاية وكان تقدمها وصول الخبر بغرق السفين الواصل من تونس إلى الأسكندرية وتلف الموجود والمولود وعظم الأسف وحسن العزاء والله قادر على ما يشاء.
ثم خرجت عام تسعة وثمانين وسبعمائة لقضاء الفرض وركبت بحر السويس من الطور إلى الينبع ورافقت المحمل إلى مكة فقضيت الحج عامئذ وعدت إلى مصر في البحر كما سافرت أولا وشغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش فولاني السلطان إياها بدلا من مدرسته في محرم أحد وتسعين وسبعمائة ومضيت على حالي من الانقباض والتدريس والتأليف حتى ولاني خانقاه بيبرس ثم عزلني عنها بعد سنة أو أزيد بسبب أنا أذكره الآن.